vendredi 6 juin 2014

الفجر تحاور الشّاعر : عبد اللّطيف علوي


-       حاوره الشّاعر بحري العرفاوي - 


       التقيته أوّل مرّة منذ حوالي ربع قرن في أمسية ثقافيّة نظّمها الطّلبة بكلية الآداب بمنّوبة ، و كان برفقة أستاذه الشّاعر عبد المجيد بني عمر ... بعد أن استمعت إلى إحدى قصائده الملحميّة ، يومها كان تعليقي : تحيّة إلى أستاذ الشّعراء عبد اللّطيف علوي ... وكان ردّه : لقد وصفتني بأكثر ممّا أستحقّ .. واليوم بعد ربع قرن أجده في نصوصه أعمق معنى وأجمل قولا وأوضح رؤيا ..
يسرّ جريدة الفجر كعادتها أن تقدّم إلى قرّائها الكرام شاعرا مبدعا في مصافحة أولى ..
      نبدأ من حيث انتهيت ، عنوان مجموعتك الأخيرة : " خيبات طفل عظيم ..." هل يشعر الشّاعر عبد اللّطيف علوي بأنّ أحلام الشّعراء خارج قانون التّاريخ أو أكبر ممّا يمكن أن يحقّقه واقعنا العربيّ ؟
      في البداية أشكرك أخي بحري لكلماتك العظيمة في حقّي ، وأرجو أن أكون بها جديرا .. حين تأتي الشّهادة من شاعر كبير مثلك ورمز من رموز المقاومة الثّقافيّة في هذه البلاد لما يزيد عن ثلاثة عقود ، فإنّها لا تزيدني إلاّ فخرا واقتناعا بأنّي قد سلكت الطّريق الصّحيح رغم ما فيه من مطبّات ومزالق وأوجاع وخيبات .. أمّا عن سؤالك أخي الكريم ، فإنّي قد قلت في قصيدة : "الساعة منتصف العمر .. ": " لمْ أَنْجُ من قدرِ الشّعراءِ بأن يُدفَنُوا في قبور تضيق بأرواحهم .." وأعتقد أنّ الشّاعر الحقيقيّ – لا أتحدّث هنا عن صفة الشّاعر الّتي تطلق بالمشاع على كلّ من يدّعيها لنفسه – الشّاعر الحقيقيّ لا يحلم خارج إطار التّاريخ أو الواقع ، وإنّما هو يبشّر بواقع آت أو ينذر بخرابٍ قادم ، أو يستشرف ما لا يراهُ الأغبياء فيظنّونه هذيانًا ... أحلام الشّاعر لا يجبُ أن تُؤخَذ على معنى اليوتوبيا والمثاليّات والرّومانسيّات المنسيّات ، وهو بالمناسبة ما يريد الخطابُ المتخلّف أن يرسّخه في نظرتنا إلى الشّاعر ، أحلام الشّاعر هي التّي تعبّر عن روح الحياة بما فيها من قيم وجمال وسموّ وإنسانيّة مفقودة ، ولذلك فإنّ الشّعر الّذي أراهُ لا يمكن أن يكون إلاّ رسالة ومشروعا وموقفا ... خاصّة حين تمرّ الشّعوب بفترات الارتداد الحضاريّ وتعاني من أمراض الاستبداد والمسخ الثقافي والسُّخرة الاجتماعيّة ، وفي مراحل المخاضات التّاريخيّة الكبرى من مثل ما نعيشه اليوم في عالمنا العربيّ .. في هذه المراحل تحديدا لا يمكن للتّاريخ أن يغفر للشاعر نكوصه أو لا مبالاته أو انشغاله بمقولات العبث الشّعريّ أو نظريّات الفنّ للفنّ .. كلّ واقع جميل يبدأ حلما جميلا ، ولكنّ الشّاعر مطالب بأن لا يكتفي بمجرّد الأحلام ، عليه أن يحمل الهمّ الوطنيّ والقوميّ ويغرس رجليه في الطّين مع الفلاّحين ويديه مع الكادحين وقلبه وجسده وعقله مع المقهورين والمنبوذين والعشّاق وحتّى المجانين ..
    تعرّضت وأنت تلميذ وطالب إلى السّجن السّياسيّ والملاحقة الأمنيّة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ، هل شعرت بأنّ الشعر قد جنى عليك أم أنّك كنت ضحيّة شبهة انتماء ..؟
    لا شكّ أنّ تلك الفترة كانت من أحلك ما عاشته بلادنا في تاريخها الحديث ، وقد عشت المحنة كما عاشها الآلاف من " أحباب الله " ، والتّعبير هنا للصّديق كمال الشّارني في روايته التي تحمل هذا العنوان ، وبالمناسبة ، كنّا نزيلين في نفس الغرفة بالسجن المدنيّ بالكاف ، .. أقول إذن إنّني تعرّضت لما تعرّضت إليه بصفتي شاعرا وبصفتي ناشطا حركيّا ( لا أستطيع أن أقول سياسيّا لأنّه آنذاك لم يكن هناك أيّ وجود لنشاط سياسيّ بالمعنى المتعارف ..) حيث أنّني قد انجرف وعيي مبكّرا إلى مناطق التّناقض الموضوعيّ بين السّلطة القمعيّة الغاشمة والشّعب المغصوب ، فوجدت نفسي معنيّا بأسئلة المصير والحرّية والانتماء والهويّة ، وبدأت قصائدي تأخذ منحى تحريضيّا واضحا ضدّ النّظام ومتلبّسا بهموم المرحلة ، كان النّظام يريد من المثقّف أن يرتدي حلّة الأعياد في المآتم والجنازات ، لكنّني لم أكن أحتمل ذلك ، وكان لا بدّ من دفع الثّمن ... فدفعته غير آسٍ ولا آسِفٍ ولا نادمٍ على ذلك ، ولو قدّر لي أن أعود إلى نفس المنطلق لاخترت نفس الطّريق ..
هل جنى عليّ الشّعر في ذلك ؟ لا أعتقد ... بل على العكس تماما ، لقد كان شرفا عظيما أن خصّني الله تعالى بأن أكون من ضمن من استثناهم بــ  "إلاَّ ..." في سورة الشّعراء .. الشعر سلاح عظيم منذ أيّام العرب الأولى وهو أيضا "منهاج في الحياة " كما يقول "لويس آراغون "، وليس مجرّد ممارسة فنّية إبداعيّة مجرّدة ، أو تهويمات مغرقة في الذّاتيّة المغيّبة ، أو شطحات عُصابيّة مرضيّة كما نراه اليوم في أغلب المنابر والمنتديات ..
أمّا عن شبهة الانتماء ، فإنّك لم تجانب الواقع كثيرا في ذلك ، وأنا بالمناسبة لا أؤمن بتلك الهالة القدسيّة الّتي يريد بعض الشّعراء أن يدّعوها لأنفسهم ، فيتعالون بذلك عن الفعل السياسيّ بحجّة الاستقلاليّة ، أو الحقوقيّ أو المدنيّ في كلّ تمظهراته ... حتّى وصلنا اليوم إلى ما يشبه الحديث عن تحييد الشّعر بعد تحييد المساجد والإدارة ووو ...
أنا رجل أنتمي إلى مبادئي أوّلا ، وإلى حضارة عربيّة إسلاميّة أؤمن بقدرتها على النهوض من جديد والاستجابة لحاجيات الإنسان الحديث المادّيّة والرّوحيّة ، وإلى كلّ القيم العظيمة التي أسّسها البشر في تاريخهم الطّويل ... أمّا الاستقلاليّة فهي حالة ذهنيّة ونفسيّة وسلوكيّة بإمكانك أن تحافظ عليها بقطع النّظر عن انتمائك السياسي أو الايديولوجيّ ..
     أنت من مدينة بوسالم ، ومنها تناسل شعراء كثيرون مبدعون .. هل ترى للمكان أثرا لاستنبات الشّعر والشّعراء ؟
     لا أعتقد ذلك ، وإن كان بعض النّاس يرتاحون لمثل هذا الرّبط الجغرافيّ ، فالثّابت أنّ الشّعراء المُجِيدين قد وجدوا على مدار التّاريخ في شتّى الأماكن المختلفة مناخيّا وبيئيّا إلى حدّ التّناقض أحيانا ... غير أنّي أميل أكثر إلى الاعتقاد بأنّ للأمر صلةً بالحالة الاجتماعيّة والمزاجيّة العامّة إضافة إلى الحيثيّات والخصوصيّات الثّقافيّة لمنطقة ما ... ففي بوسالم مثلا ، كان لنا الحظّ أن وجدت في أواسط الثمانينات نواة لمثقّفين نوعيّين طموحين ، اتّسموا كثيرا باتّساع الأفق و حماسة المبادرة ، فأسّسوا مهرجان الربيع الأدبي ، وكان يحضره سنويّا الكثير من الأسماء المعروفة على المستوى الوطنيّ ، بالتّوازي مع نادي الأدب الذي كان ينشط أسبوعيّا بدار الثقافة وينفتح على الوسط التّلمذيّ بالمعاهد المحيطة به في شكل مسابقات وندوات وأنشطة متنوّعة.. كلّ ذلك أدّى في النّهاية إلى بروز حالة إبداعيّة عامّة لا يخطئها النّاقد أو الملاحظ عموما ...
    بعد 14 جانفي تكشّفت السّاحة التّونسيّة عن شعراء كثيرين كانوا مقهورين ومحجوبين ... هل ترى أنّ الحرّيّة منتجة للإبداع أم مهدّدة له ؟
    لا شيء ينمو أو يتطوّر بدون الحرّيّة في كلّ مجالات الحياة ، فكيف إذا تعلّق الأمر بالشّعر والإبداع عموما ؟ ... الاستبداد يخلق أشكالا مرضيّة من الفنون المنفصمة عن واقعها وحتّى المعادية له ، وقد يبلغ بها الأمر أن تصبح أدوات فتّاكة تشكّل العقول حسب قوالب الثقافة التي يروّجها المستبدّون دائما : ثقافة العجز وقلّة الحيلة واللاّمبالاة والتّسليم الأعمى وتجريم الذّات إزاء كلّ ما يصيبها ..
الكثير من المبدعين الأحرار ، في تونس ، كما في غيرها ، عاشوا تلك الفترة بغصّة مقيتة في الحلق وحجر جاثم في الصّدر ، فلا هم يستطيعون أن يعبّروا عن سواد الواقع و بشاعة الجريمة الشاملة التي كانت ترتكبها أنظمة المناولة الاستعماريّة ، ولا هم يستطيعون أن يدفعوا ثمن الكلمة الحرة ، تلك التي كان النظام يحاربها أكثر من أيّ شيء آخر ، لأنّها بالنسبة إليه سلطة مضادّة لسلطته القائمة على تمكين الخوف .. ، وحتّى إن وجد من تجرّأ على كسر جدران الصّمت ، فإنّ صوته سرعان ما يخنق ويلقى به في مجاهل النّسيان ..
لذلك رأينا هذا الانبعاث الفجئيّ / المفهوم لأصوات نوعيّة كثيرة بعد الثورة ، وهي لا شكّ تحتاج إلى غربلة هادئة على أسس نقديّة فنّيّة ، و لا يجوز الاستمرار في الاحتفاء بها لمجرّد ما تحمله من المظلوميّة السّابقة أو الشهادة على العصر ..
     ما مكانة الشّعر والشّعراء في هذا المشهد المهووس بالسّياسة والايديولوجيا ؟
أن يكون المشهد مهووسا بالسياسة والايديولوجيا ، فهذا أمر طبيعيّ تماما ، وأكاد أقول صحيّ أيضا .. ، في فترة غليان انتقاليّ ومخاض تاريخيّ لهذه الأمّة .. فقد عشنا عقودا في صحراء سياسيّة وغصبٍ ايديولوجيّ رسميّ ، ولم يتسنّ لهذه النّخبة أن تطرح قضاياها ومقولاتها في إطار طبيعيّ مدنيّ قبل الثورة ، فكيف وقد اندفع السّدّادُ فجأة وخرج الجنّيّ الّذي كان محبوسا داخل قارورة كلّ منّا دفعة واحدة ..؟؟ هذه المرحلة المفصليّة تحتاج إلى كثير من التّجريب السياسي ، ولو وصل الأمر حدّ التّدافع ، كما تحتاج إلى تصادم الايديولوجيّات واحتكاكها حتّى تتآكل تدريجيّا و تفقد عنف الوثوقيّة داخلها ، فنصل إلى مرحلة اللاّايديولوجي واللاّسياسويّ ..
مع ذلك يبقى الشّعر – لمن يفهم المعنى الحقيقيّ للشّعر- المعبّر الأصدق عن روح هذه المرحلة وتحدّياتها وقيمها ، الشّعر معنيّ بأن يقاوم توحّش السّياسة ودوغمائيّة الأيديولوجيا ، ويعيد المعركة إلى أسسها الحقيقيّة المتمثّلة في قيم الحرّيّة والعدالة والمواطنة والبناء ... ولا يكون ذلك إلاّ بشعراء منتمين إلى هموم أوطانهم ، منخرطين في الشّأن العامّ ، يعبّرون عن مبادئهم بكلّ حرّية و مسؤوليّة ولا ينخرطون في موجات النّفير العامّ بدون أن يقدّروا مصلحة الوطن في ذلك أو عدمها ..
    ماذا لو طلبنا منك أن تختار مقطعا شعريّا من مجموعتك الشّعريّة الأخيرة تهديه لقرّاء الفجر ...
     قبل ذلك لا يسعني إلاّ أن أجدّد شكري لجريدة الفجر وللقائمين عليها ، وإليك أخي بحري بشكل خاصّ ، وأهدي لقرّائكم المحترمين هذا المقطع من قصيدة : "بلادي قصيدة .. " ولعلّه يعبّر عن كثير ممّا دار بيننا في هذا الحوار الجادّ :
  أنا يا كرامُ ثقيلُ اللّسانِ ،
ولا أُتْقِنُ الغزلَ الموسمِيَّ على شاشةٍ أو جريدَهْ ..
بلادي قصيدَهْ ..
ولمْ أرَ فيمَنْ أرى بينكم من يَصيدُ القصيدَهْ
وأعرفُ .. ما أكثرَ الشّعراءَ الّذين تغنّوْا بأنهارِها ..
أو بأشجارِها أو بأقمارِها أو بِأقدارِها ..
والّذين تغنَّوْا بأعيادِها
أو بجلاَّدِها أو بأمجادِها رغمَ حُسّادِها..
والّذين عَمُوا عن زهورِ الطّفولةِ تقصفُها الرّيحُ من حولِهِمْ
ومَضَوْا يَصِفُونَ البنفسجَ والياسمِينَ ،
وجنّاتِ عَدْنٍ على أرضِها فاتِنَهْ ..
ليس لي يا كرامُ فصاحَتُهُم في المديحِ ،
ولا في التّذلّلِ أو في التّوَسُّلِ بالأدمُعِ الخائِنَهْ ..
أنا يا كِرامُ بلادي قصيدهْ
وعشٌّ حزينٌ على غُصنِ زيتونةٍ في العراء تموتُ وحيدهْ
يُجرّحُنِي عِطْرُها اللّيلكيُّ
إذا لمْ يُضمّخْ شوارِعَها كلَّها والرُّبى والبُيُوتَ البعيدَهْ ..
وكاذبَةٌ شمسُها والنّجومُ ..
إذا لمْ يَرِفَّ لها كلُّ قلبٍ كسيرٍ
ويبتَلَّ من نورها كالغُصُونِ الوليدَهْ
وزائِفةٌ كلُّ أقمارِها المُشتهاةُ وأخبارُها …
كلُّ أعيادِها، وبطولاتُ أجدادِها،
وملاحمُ أيَّامِهَا الخالِداتِ المَجِيدَهْ
إذا لم يكنْ للمَلاعينِ فيها نصيبُ ..
وللرَّاقِصينَ حُفاةً على الجمرِ أيضًا نصيبُ ..
وللواقفينَ على شُرفَةِ الرّيحِ والموتِ في حبّها
كالشّموعِ العنيدَهْ
بلادي قصيدَهْ
ولمْ أرَ فيمَنْ أرى بينكم من يصيدُ القصيدَهْ .
-       حاوره الشّاعر بحري العرفاوي -