اخترت لكم











مقتطف من كتاب "الأعمال الكاملة" من تأليف - أمل دنقل

 أمل دنقل :  الشعر
خطـــــاب غيــر تاريخـــــي


ها أنتَ تَسْترخي أخيراً..

فوداعاً..

يا صَلاحَ الدينْ.

يا أيُها الطَبلُ البِدائيُّ الذي تراقصَ الموتى

على إيقاعِه المجنونِ.

يا قاربَ الفَلِّينِ

للعربِ الغرقى الذين شَتَّتتْهُمْ سُفنُ القراصِنه

وأدركتهم لعنةُ الفراعِنه.

وسنةً.. بعدَ سنه..

صارت لهم "حِطينْ"..

تميمةَ الطِّفِل, وأكسيرَ الغدِ العِنّينْ

(جبل التوباد حياك الحيا)

(وسقى الله ثرانا الأجنبي!)

مرَّتْ خيولُ التُركْ

مَرت خُيولُ الشِّركْ

مرت خُيول الملكِ - النَّسر,

مرتْ خيول التترِ الباقينْ

ونحن - جيلاً بعد جيل - في ميادينِ المراهنه

نموتُ تحتَ الأحصِنه!

وأنتَ في المِذياعِ, في جرائدِ التَّهوينْ

تستوقفُ الفارين

تخطبُ فيهم صائِحاً: "حِطّينْ"..

وترتدي العِقالَ تارةً,

وترتدي مَلابس الفدائييّنْ

وتشربُ الشَّايَ مع الجنود

في المُعسكراتِ الخشِنه

وترفعُ الرايةَ,

حتى تستردَ المدنَ المرتهنَة

وتطلقُ النارَ على جوادِكَ المِسكينْ

حتى سقطتَ - أيها الزَّعيم

واغتالتْك أيدي الكَهَنه!

***

(وطني لو شُغِلتُ بالخلدِ عَنه..)

(نازعتني - لمجلسِ الأمنِ - نَفسي!)

***

نم يا صلاحَ الدين

نم.. تَتَدلى فوقَ قَبرِك الورودُ..

كالمظلِّيين!

ونحنُ ساهرونَ في نافذةِ الحَنينْ

نُقشّر التُفاحَ بالسِّكينْ

ونسألُ اللهَ "القُروضَ الحسَنه"!

فاتحةً:

آمينْ.
أمل دنقل












قصائد مختارة للشاعر الكبير شوقي بزيع


شوقي بزيع

الزنزلخت


برهافة امرأة يداهمها النعاس على الأريكة
يستقلّ الزنزلخت جذوعه التعبى
ليلتمس الإقامة تحت شمس خائره
مغرورقاً أبداً بما ينسابُ
من عرق الجباه على الحنينِ
وما يفيض عن المنازل من نفاياتٍ
ومن تعب السنين الجائره
يغضي على نزواته
كفتىً طريّ العود داهمه البلوغُ،
ويستبدّ بروحه حيناً جموح صارخ
لتلقف الشهوات
من أوكارها الأولى
فيصهل حين ترمقه فتاة ما بنظرتها
ويجمح فوق قائمة الصبابات الوحيدة
مثل سرب من خيول لم تروّض
ثم يدرك أنه، كبقية الأشجار،
محض تطلّع أعمى إلى جسد الحياة،
فيستعيد هدوءه الدهريّ
منطوياً على أغصانه الخجلى
وما تذروه من وجع على عينيه
أفئدة الرياح الشاغره
الزنزلخت عصارة الأحلام
تأليف موسيقيّ الخشوع
لما ترسبّه المناحات الأليفة
فوق مجرى الدمع،
يولد من رياح غضة الأيدي
ويسلم نفسه،
كرموش عينيْ طفلة مجهولة الأبوين، للمجهول
ثم، كمن تذكّر فجأة حباً مضى
يرتدّ ثانية
ليجمع تحت أثقل خيبة
أوراقه المتناثره
لنسيجه طعم الفراق المرّ،
تسرف في تناوله النساء
إذا وقعن على حبيب لا يجيء،
كأنه، وهو الذي لا يحسن الإفصاح
لا يلوي على تمر من الأثمار
بل يرنو مريضاً
نحو نافذة الحياة الخاسرة
لكأنه شجر لغير زماننا
ولذا يظل بمأمن قبضة المتربصين به
غريباً لا تهش له الجرود
ولا تبادله الروائح نفثة
من عطرها المشبوب،
لا فصل يليق بما تكابد نفسه
لكنه يصل الفصول ببعضها،
مخضوضراً أبداً يظل الزنزلخت
ويرتمي متهالك الأنفاس
في حضن النجوم الغائره
الزنزلخت نزوعنا الصيفي للنسيان،
تكرارٌ عديم الشكل للتحليق فوق الموت،
ينهض كل يوم من مخابئه
ليسقي جنة أبدية الأقمار
تلمع فوق ريف العين،
وهو الجانب المرئي من لون الغياب
وطائر غض له شكل النبات
يطير بلا جناح في صباحات القرى
ليغط في صحو بعيد الغور
أو ليصير عند رحيله
خشباً لبيت الذاكره
 

السنديان

هو أكثر الأشجار تعويلاً على ما فات،
عكّاز الطفولة
والثغاء الأوليّ لماعز الماضي
ولا تحتاج غصته إلى برهان
لنراه تلزمنا مناديلٌ تلوّح من بعيد
للسواقي البيض،
أحلامٌ لتبديد المخاوف
حول موقده الأليف
وعدة لتسلق السنوات حين نشيخ كالأمثال
تحت نشيجها الواهي
وتلزمنا معاول صلبة الأيدي
لنبحث، حيث يفترض النبات مقابر الأسلاف،
عن شجر نبادله الجذوع
وعن هواء كامل النسيان
السنديان ظهيرنا البريّ
لا شجر يعمّر في القرى إلا بإذن منه،
لا جرس يدندن في السفوح
بغير نخوته
وتمتحن الفحولة نفسها
بجماله الظمآن
السنديان رحيلنا الفطريّ
في طرق مؤبدة الشكوك
فحين يلوح قرص الشمس أخضر
في الظهيرة
ينتشي طرباً،
وحين تمرّر فوقه الذكرى جدائلها الطويلة
يستبدّ به أنين شاعري الرجع
يُسكر صوتُه الوديان
لكنّ في دمه الغضوب
بريق أفراس تحمحم في الهواء
ولن يكون بمستطاع الريح في الفلوات
أن تلوي عزيمته
فليس يموت إلا واقفاً
ويظل رغم سقوطه متوثباً
كتوثب النيران في الصوان
للسنديان طبيعتان:
ضراوة شتوية للانقضاض
على دم المعنى،
وتوق مستمر للتحلق حول صيف الشكل
وهو يضيء بينهما
ممراً ضيق الخطوات
بين الوحش والإنسان
 
الخرّوب

ذات سماء ما
زرقاء ويانعة، كانت تتدفق موسيقى الأكوان
على الأكوان
ولم تكن الأشجار
سوى ريح خالصة الخيبة
نائمة في ناي مثقوب
ذات سماء ما
كان هلالان شقيقان
يطلان على الأرض من الأعلى
ويضيئان معاً شرفات دامعة الأهداب
وأودية بيضاء
وأسمال بيوت
ودخان حروب
لم يحدث عبر الأزمان أن افترقا
بل طفقا يثبان كجديين معاً
بين الأيام،
معاً رضعا من نهد الشمس
حليب أمومتهما الصافي
ومعاً كانا يبتاعان غيوماً
من أسواق الغيم السوداء
لتستر عريهما الفضي
وأوشاماً... وندوب
لكن، في أحد الأسحار،
تصدّت لهما نجمة صبح خضراء
وهوجاء الفتنة،
مضرمة تحت حرير جمالهما الرائق
عاصفة من شهوات حمرٍ،
وسياطِ براكينَ
ولسعِ ذنوبْ
ذات سماءٍ ما
كان هلالان شقيقان يسلاّن سيوفاً
تصقلها الغيرة بينهما بالأنياب
فيقتتلان كما لا يفعل أعتى الأعداء،
اقتتلا كغزالين على نبع
واقتتلا كغرابين على رمشين يفيضان سواداً،
وكعودين على وتر منهوب
وككأسين من الدمع اقتتلا
حتى انكشفت من حولهما
قيعان الأفلاك
وحتى انجلت الحرب عن الغالب والمغلوب
ذات سماءٍ ما
كان هلال يبيضّ ككفل المهر
بعيد غروب الشمس
ويصبح مذ فاز بنجمته
بدراً مكتمل الطلعة
محمولاً فوق سماء من شغف مشبوب
فيما راح الآخر
يهبط نحو الأرض
لكي يتقوّس كالقرن اليابس،
عريان وأسود،
في شجر الخروب
أبواب خلفية
في ذلك الركن القصيّ من الكتابة
حيث أفشل في تعقب فكرة
هربت من الإيقاع
يحدث فجأة أن تدخل امرأة إلى المقهى
وتجلس باتجاه البحر،
منعكساً على المرآة
كان جمالها ينحلّ في الصمت المحايد بيننا
كمراكب منهوبة الأحزان،
لم تتجشّم التحديق في أحد
من الجلساء،
لم تلحظ خلوّ يدي من الكلمات
بل فتحت كتاباً،
كان يرقد في حقيبتها،
وغامت في تضاعيف الكتاب
في ذلك الركن القصيّ من الكتابة
راح يعصف بي حنين جارف
للقفز فوق وجوديَ الفاني،
لتمكين المجاز من التطلع نحو مصدره
وتنقية الجمال من التراب
متأمّلاً في وجهها،
في اللامبالاة التي تعلو التفاتته
إلى الأشياء،
كدت أرى مجاراة الظلال
لضوئه العاري
النعاس كما لو أنه، متنكراً
في هيئة امرأة،
يجرّد جسمها الشفاف من جريانه
تحت الثياب
لكنني متأخراً أدركت
أني لم أكن أرنو إلى أحد،
فلا امرأة رأيت
سوى ما يستحيل بقوة التحديق
صورة ما نحب،
لذا، وقد امتحنت بدون جدوى
خيبة الكلمات
غادرت المكان كعادتي في مثل هذا الوقت
كي تأتي القصيدة في غيابي!





فيروزيات / منوعة






بالرغم منا قد نضيع .....الشاعر فاروق جويدة 



قد قال لي يوماً أبي

إن جئت يا ولدي المدينة كالغريب

وغدوت تلعق من ثراها البؤس

في الليل الكئيب

قد تشتهي فيها الصديق أو الحبيب

إن صرت يا ولدي غريباً في الزحام

أو صارت الدنيا امتهاناً .. في امتهان

أو جئت تطلب عزة الإنسان في دنيا الهوان

إن ضاقت الدنيا عليك

فخذ همومك في يديك

واذهب إلى قبر الحسين

وهناك صلي ركعتين

(2)

كانت حياتي مثل كل العاشقين

والعمر أشواق يداعبها الحنين

كانت هموم أبي تذوب .. بركعتين

كل الذي يبغيه في الدنيا صلاة في الحسين

أو دعوة لله أن يرضى عليه

لكي يرى .. جد الحسين

قد كنت مثل أبي أصلي في المساء

وأظلُ أقرأ في كتاب الله ألتمس الرجاء

أو أقرأ الكتب القديمة

أشواق ليلى أو رياضَ .. أبي العلاء

(3)

وأتيتُ يوماً للمدينة كالغريب

ورنينُ صوت أبي يهز مسامعي

وسط الضباب وفي الزحامِ

يهزني في مضجعي

ومدينتي الحيرى ضبابٌ في ضباب

أحشاؤها حُبلى بطفلٍ

غير معروف الهوية

أحزانها كرمادِ أنثى

ربما كانت ضحية

أنفاسُها كالقيدِ يعصف بالسجين

طرقاتُها .. سوداء كالليل الحزين

أشجارها صفراء والدم في شوارعها .. يسيل

كم من دماء الناس

ينـزف دون جرح .. أو طبيب

لا شيء فيك مدينتي غير الزحام

أحياؤنا .. سكنوا المقابر

قبلَ أن يأتي الرحيل

هربوا إلى الموتى أرادوا الصمت .. في دنيا الكلام

ما أثقل الدنيا ...

وكل الناس تحيا .. بالكلام

(4)

وهناك في درب المدينةِ ضاع مني .. كل شيء

أضواؤها .. الصفراء كالشبح .. المخيف

جثث من الأحياء نامت فوق أشلاء .. الرصيف

ماتوا يريدون الرغيف

شيخٌ ( عجوز ) يختفي خلف الضباب

ويدغدغ المسكينُ شيئاً .. من كلام

قد كان لي مجدٌ وأيامٌ .. عظام

قد كان لي عقل يفجر

في صخور الأرض أنهار الضياء

لم يبق في الدنيا حياء

قد قلتُ ما عندي فقالوا أنني

المجنونُ .. بين العقلاء

قالوا بأني قد عصيتُ الأنبياء

(5)

دربُ المدينة صارخُ الألوانِ

فهنا يمين .. أو يسارٌ قاني

والكل يجلس فوق جسمِ جريمةٍ

هي نزعة الأخلاقِ .. في الإنسانِ

أبتاه .. أيامي هنا تمضي

مع الحزن العميق

وأعيشُ وحدي ..

قد فقدتُ القلبَ والنبضَ .. الرقيق

دربُ المدينة يا أبي دربٌ عتيق

تتربع الأحزانُ في أرجائه

ويموت فيه الحب .. والأمل الغريق

(6)

ماذا ستفعل يا أبي

إن جئتَ يوماً دربنا

أترى ستحيا مثلنا ؟؟

ستموت يا أبتاه حزناً .. بيننا

وستسمع الأصواتَ تصرخُ .. يا أبي : يا ليتنا ..يا ليتنا .. يا ليتنا

وغدوتُ بين الدربِ ألتمسُ الهروب

أين المفر؟

والعمرُ يسرع للغروب

(7)

أبتاهُ .. لا تحزن

فقد مضت السنين

ولم أصلِّ .. في الحسين

لو كنتَ يا أبتاهُ مثلي

لعرفتَ كيف يضيع منا كلُ شيء

بالرغم منا .. قد نضيع

بالرغم منا .. قد نضيع

من يمنح الغرباءَ دفئاً في الصقيع؟

من يجعل الغصنَ العقيمَ

يجيء يوماً .. بالربيع ؟

من ينقذ الإنسان من هذا .. القطيع ؟

(8)

أبتاهُ

بالأمس عدتُ إلى الحسين

صليتُ فيه الركعتين

بقيت همومي مثلما كانت

صارت همومي في المدينةِ

لا تذوب بركعتين

Aucun commentaire: