vendredi 16 août 2013

وكان صديقي ...



لم نكن يومها طائرين على موعد للغناءِ ...
حزينا تركته قبل اكتمال الصّباح على باحة المعهد الثّانويّ ،
وأفريلُ يطفئُ آخر نرجسة في طريقه ..
كان هنالكَ أكثرُ من سبب للكلامِ ،
وأكثرُ من سبب للبكاءِ ...
توقّفتُ ، لم يلتفتْ .. ثمّ مرّ كما السّيف ما بين ضلعينِ،
-        ألقاك يا صاحبي في المساءِ ..
وغمغم في سرّه القلبُ قبل الرّحيلِ،
-        أجل .. ربّما ، في المساءِ... إذا شيء لي... يا صديقي
وكانَ صديقِي ..
وكانتْ طَريقُ الحَريرِ تَمُرُّ على بابِ قَلْبِهِ ، كانتْ طَريقِي ..
وكنّا نحطّ كفرخيْ يمامٍ على حطب الغرباءِ  ،
ونعلو ونسفلُ ،  
منْ دُونِ أرْضٍ تلقّفنا  أَو سماءِ
وكان صديقي ..
وكانَ يُحِبُّ رُكُوبَ المُحالِ ..
 و يَعْشَقُ كلَّ النِّساء كما تعشق الرّيح كلّ الجبالِ ..
وَيَعْشَقُ أُمَّهُ والأخواتَ الثَّلاثَ ،
ويَخْجلُ من صَبْرِهِنَّ ومن صَمتِهِنَّ إذا طالَ
قبلَ السُّؤالِ ... وبعدَ السُّؤالِ ..
ويَعْشَقُ من دونِهِنَّ الّتي تتفتَّحُ في رِئَتَيْهِ كَزَهْرِ الأَرَنْجِ ،
وتغشاه كالموتِ بينَ الزَّفيرِ وبينَ الشَّهيقِ ...
وكان صديقي ...
تدُورُ رحى الصّيفِ عامًا فعامَا
وفي الصّيفِ تَغْسِلُ بلطَةُ أقمارَها قمرًا قمرًا ..
وتُلَمْلِمُ أحجارَها حجرًا حجَرًا ..
وتحدّث أخبارها أنَّ للأَولِياءِ من الصّالحين مَقامَا
وللرّاكِبين على دُبُرِ الرّاكبين مقامَا
وللشّعَراءِ إذا سقطوا في المقامِ مَقَامَا...
وفي الصّيفِ تَعْرفُ بَلْطَةُ أبناءَها العائِدينَ يجُرُّون شوقا ذليلا
يذيبون أحزانهم في عيون عجائزها الزّاهداتِ
يهزّون جذع الأماني إليهم ،
فيسّاقط العمرُ منها حطامَا ...
وَيَبْقَونَ حتّى تَغِيضَ العُيُونُ وتَحْبلَ زوجاتُهُمْ ،
ثمّ يَمْضُونَ ظلاًّ كسيرًا تُطوِّحُهُ الرّيحُ مهما استَقَامَ
تدُورُ رحى الصّيفِ عامًا فعامَا
وَيَقْطَعُني صاحبي مثلَ سيفٍ مُضِيءٍ ،
ويطلق في الرّوح درويش والمتنبّيَ
يطلق فيروزَ أو أَسْمهانَ ، وعبد الوهابِ ونورَ الهُدى ..
يتذكّرُ زينبَ بينَ انْفِلاتِ النّشيجِ ورجْعِ الصَّدى ..
وحدها كان يُمْكِنُ أن تتبرّدَ في ماءِ عينيهِ دون احتراقِ ..
وقاسيَةٌ وحدها..
كان يمكنُ أن لا تُصِيبَهُ ثانِيَةً بعد عشرينَ عامَا
وأن تتَرفَّقَ في قتلهِ ساعةً ساعَةً...
يتحسّسُ في الجيبِ سيجارتَيْنِ ،
فليسَ يُدخِّنُ إلاَّ لِمامَا...
وَيُبْكِيهِ ما يُضْحِكُ الآخرينَ ، السُّقُوطُ المُفاجِئُ،
رَكْضُ الأَرانبِ مذعورةً بين أَقدامِهِمْ ،
وغِناءُ المَساطِيلِ أو رَقْصُهُم في المواكب ،
تُبْكِيهِ نوّارةُ الشَّوكِ في كَعْبِ عائِشةٍ ..
فَيَمُدُّ إليها يدًا تَلْعنُ الماء والخبزَ
والصّابرين على دمعِهِمْ كاليتامى
تدُورُ رحى الصّيفِ عامًا فعامَا .....
وترحلُ بَلْطَةُ عنّي فأرحلُ عنها ..
تَضيقُ كَرَحْمٍ هجِينٍ ،
وتلفُظُنِي قبل أن أشتهي موتةَ الأنبياء على صدرها ...
قبل أن أتألّه في حبّها أو أُلامَ ...
ويذكرني السّاهرون بخيرٍ .. بمِلْيون خيرٍ :
لقد عاشَر الجِنَّ منذ صِباهُ وجاء بسحرٍ مُبينٍ ،
فلا تشرَبوا من يديهِ ،
وجُرُّوه إن عاد من كتِفَيهِ ،
وصبّوا الرّماد على مقلتيهِ ،
لكي لا يرى النّورَ إن بان فجره إلاّ ظلامَا ..
تدُورُ رحى الصّيفِ عامًا فعامَا .....
و يَكتهِلُ الطِّفْلُ في طرقاتِ المدينةِ، ثمّ يَشِيبُ
ويَنْشَفُ قلبُهُ مثلَ الجريدَةِ .. يَهْجُرُهُ الشّعرُ عشرين عامَا
كأنّهُ ما طاولَ النّجْمَ يومًا
وَ لاَ عَرَّشَتْ فوقَ كَفَّيْهِ رِيحُ الخُزامَى
وَ أنظرُ حولي ..أرى صاحبي عالِقا في رمال القصيدةِ ،
تُدْنِيهِ حينًا وتُرْخِيهِ ،
تحييه حينا و تفنيه
أَهْفُو فيَجْفُو وأجْفُو فَيَهْفُو ..
و يرجع أفريل ، ..يرحل أفريل للمرّة الأربعين
ونبقى وحيدين يا صاحبي كالفراشة... ،
 نبحث عن ظلّنا في الحريقِ ...
وكان صديقي ...
                                         عبد اللطيف علوي

Aucun commentaire: