غداة الاغتيال
الأوّل ( بما أنّنا دولة أصبحت تؤرّخ بالاغتيالات ) خرج علينا المغفور له حمّادي
الجبالي ، ليخبرنا أنّه قرّر- بدافع من ضميره ، ودون الرّجوع إلى أيّ كان من غبار
هذا الشّعب ( التّعبير لبورقيبة رجل الضّمير الأعظم ) – أن يحلّ الحكومة ويدعو إلى
حكومة تقنوقراط ، ستكون لها كلّ العصيّ السّحريّة لإخراج البلاد من أزمتها ، حدث
ذلك في حركة بهلوانيّة غريبة فاجأت الحلفاء قبل الخصوم ، وأربكت المشهد السّياسيّ
طيلة أشهر ..
وغداة الاغتيال
الثّاني ، وما تلاه من أعمال البلطجة السّياسيّة لجماعة الرّحيل و خنقتونا والفشل
الكلويّ المزمن ... خرج علينا " الزّعيم " بن جعفر ، ليخبرنا أنّه هو
أيضا قرّر- بدافع من ضميره ، ودون الرّجوع إلى أيّ كان من غبار هذا الشّعب – أن
يعطّل عمل المجلس التّأسيسيّ إلى أجل يقرّره هو حسب حالة ضميره ، ...
وغدا ، إذا قدّر
الله ووقع اغتيال ثالث ، أو أيّ مصيبة أخرى ، أخشى أن يخرج علينا المرزوقي – بما أنّ
الرّئاسات الثّلاثة تقتسم حصريّا مونوبول الضّمير وتستعمله بالتّداول والوفاق –
أخشى أن يخرج علينا ويعلن أنّه هو أيضا قرّر - - بدافع من ضميره ، ودون الرّجوع
إلى أيّ كان من غبار هذا الشّعب – أن يحلّ الرّئاسة والدّولة والشّعب ، ويجعلنا
مقاطعة ملحقة بالجزائر أو فرنسا أو التّشاد ، كي يدفع جميع الأطراف إلى التّوافق
والجلوس إلى طاولة المفاوضات ...
وطبعا ، المطلوب
منّا كشعب مطيع وديع حسن النّيّة ، أن نحسن النّيّة بفراسة قادتنا وحكمتهم
وإخلاصهم و قدراتهم الخارقة على ابتداع الحلول الخاصّة الّتي لا يأتيها الباطل من
بين يديها ولا من خلفها ، كيف لا ؟؟ وهم قد حكّموا فينا ضمائرهم الصّافية الصّادقة
؟
لا أعرف "
ايه حكاية الضّمير اللّي ماشيهْ في البلدْ اليومين دُولْ ؟؟" على رأي عادل
إمام ..
ما هذا الهراء والتّنطّع
السّياسيّ ؟ ما هذه القيميّة الذّاتيّة الصّبيانيّة الخارجة عن أيّ منطق أو قانون
أو عرف سياسيّ في إدارة الشّأن العامّ ؟؟
هذا الضّمير الّذي
يتحدّثون عنه ، أقصد الضّمير البشريّ عموما ، ليس له وضع دائم مستقرّ كي نتحدّث
عنه في المطلق ، إنّه دائما يكون على حالة صاحبه : فقد يكون هذا الضّمير مسترخيا ،
أو متنطّعا ، غبيّا ، مخاتلاً ، عميلا ، أفّاقًا ، مترهّلاً ، ناعسا ، صاحيا ،
جبانًا ، موتورًا ، متزلّفًا ، جاهلاً ، وطنيّا ، مستوردًا ... وقد يكون ضميرًا في
حالة سكر ، أو عطالة ، أو موت سريريّ أو في حالة ضياع ، أو حتّى في وضع مخلّ
بالآداب .. وأحيانا يكون الضّمير كنيّة صاحبه " مقعْمِزْ"
والضّمير البشريّ
، حاله كحال الضّمير النّحويّ ، قد يكون معربا وقد يكون مبنيّا ، قد يكون متّصلاً
بما نعرف وأحيانا لا نعرف ، وقد يكون منفصلا عن الواقع والتّاريخ والمصلحة
الحقيقيّة للوطن ، وقد يكون مستترا تحرّكه أيادٍ قذرة متآمرة
وهناك نوع آخر من
الضّمير ، لمن يعرفه ، اسمه ضمير المنّاعي ...
يعني أنّه من
السّخف والهرطقة ، أن تطلب منّا أن نحسن بك الظّنّ لمجرّد أنّك تنطلق من ضميرك (
هذا إذا سلّمنا أنّك تنطلق فعلا من ضميرك وليس ممّا وراءه ..) وحتّى الانطلاق من الضّمائر
الصّادقة ، لا يوصل بالضّرورة إلى سلامة الاختيار ... وكم من مصائب تحلّ بالأفراد
أو الجماعات يكون المنطلق فيها حسن النّيّة ، وسوء التّقدير ...
يجب أن يفهم هؤلاء
الرّؤساء ، و كلّ من وجد نفسه في منصب يهتمّ بالشّأن العامّ مهما قلّ شأنه أو علاَ
..، أنّنا لا نريد بعد اليوم أن تحكّموا فينا ضمائركم !!! نريدكم أن تحكّموا
فينا القانون ، ولا شيء غير القانون ... نريد أن نعيش مواطنين في بلد لا يحكمه
أنصاف آلهة ، ولا حتّى آلهة ..
نريد أن يحكمنا
بشر مثلنا ، خطّاؤون ، مُعرّضون مثلنا لأن يرتكبوا الحماقات وأن يكذبوا ويراوغوا ويغدروا
ويخونوا، ولذلك نخضعهم لمسطرة القانون ، ونحاسبهم كما يحاسبوننا ، ولا نريد زعماء
ملهمين ، أو أولياء صالحين يعقدون النّيّة فيصدق قولهم وعملهم ..
نريد دولة حقيقيّة
،لا مجرّد قبيلة أو عشيرة تحكمها نوايا كبرائها ونزواتهم ... دولة قانون ومؤسّسات
، تكون المسؤوليّة فيها واضحة عن كلّ إخلال أو تقصير في خدمة مواطنيها ، دولة تقوم
على احترام مسالك اتّخاذ القرار وفق القانون والأصول والعرف الدّيموقراطيّ ، ولا
نريد ألقابا جديدة كالمعتصم والمقتدر والمنصور ..إلخ ..
كفّوا عن التّعامل معنا بمنطق المستبدّ العادل و أهل
البركة المكشوف عنهم الحجاب .. أنتم قادة شعوب ولستم أولياء صالحين أو مجموعة من
الدّراويش والمجاذيب المستجاب دعاؤهم لخلاص نواياهم وصدق ضمائرهم ... وأعطونا دولة
بلا " ضمير " ، نعطكم شعبا عظيما
***********************
عبد اللّطيف علوي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire