أشفق على بعض النّاس لشدّة ما يكابدونه - مخلصين - من مشقّة النّصح بأن أتجنّب الخوض في السّياسة ، كما يتجنّب العاقل مرض الجذام ، وأن ، أخصّص وقتي الثّمين كلّه للتّأمّل والهيام مع النّسيم والذّهول مع النّجوم والتّحليق في سماء الجمال مع الطّيور والفراشات كي أبدع شعرا جميلا عليلا محايدا ( تكنوقراط يعني ) ...
- هؤلاء المتطوّعون لنصحي حجّتهم قويّة دامغة بأنّ الشّعر أرقى من السياسة ، والشاعر أو المبدع عموما ( وربّما حتّى المثقف بشكل أعمّ ) يجب أن يتعالى عن السياسة باعتبارها نجاسة ، ويجب أن يعيش في حالة عذريّة مع أحلامه وأوهامه دون أن يفسدها بمنطق إدارة الحياة العامة اللّعينة ... ويحتجّون كذلك بهذا القول لسارتر وذاك القول لميكيافيلّي وخاصّة ( وهذا الجديد ) حكمة القذّافي المأثورة " من تحزّب خان " وهلمّ جرّا ...
- أيّها الّذين لا أعرف لهم وصفا يليق بضلالتهم ...
لقد عرفت السياسة قبل حتّى أن أعرف الشّعر ، السياسة عندي انجراف في حالة الوعي بالقهر والظّلم وأوجاع النّاس و هوانهم على الحكّام ... هذا الوعي الّذي تفتّح باكرا هو الّذي ورّطني أكثر في الشّعر وليس العكس
- إنّ القول بتحييد الشعر ، أو الفنّ عموما ، عن السياسة ( هذه غفل عنها الحوار الوطنيّ ) هذا القول يعبّر عن حالة غربة وانفصام مزمنة لدى كثير من مثقّفي الصّالونات عن مشاغل الناس وهمومهم ، أولئك الّذين يعتبرون الفنّ حالة عبث ذهنيّ أو نفسيّ وترف بورجوازيّ ونرجسيّة عمياء ، ويعبّر أكثر عن ضعف وعجز ولامبالاة برسالة المثقّف في مجتمعه ، فينبرون إلى هذه الأساليب من التّنطّع اللّغويّ ليوهموا النّاس أنّ الفنّ يكون أرقى وأسمى وأجمل حين يتعالى على معترك السياسة ، وهذا عين الغبن ، لأنّ السياسة - بالمفهوم الشّامل ليس الحزبيّ - تعني الاهتمام بالشّأن العام والمساهمة في إدارة الحياة الجمعيّة ... وهذا شرف لا يدركه إلاّ من لم تتلطّخ نظّارته بأوحال مستنقعات الذّاتيّة المرضيّة
- إنّه حتّى التّحزّب ، لا يمكن أن يسلب من الإنسان حياده الفكريّ والقيميّ والأخلاقيّ ، إلاّ بقدر استعداده هو للتفريط في تلك الاستقلالية ، ومن الطّبيعيّ أن يتحزّب الشاعر أيضا إن أراد ، باعتباره هو أيضا كائنا سياسيا يعنيه الشأن العام ، ولا يعيش في فراغ نظريّ وموضوعيّ ، العبرة بالرسالة التي سيؤدّيها الفنان من خلال انضمامه لهذا الحزب أو ذاك ، والمحدّد الرّئيسيّ هو شخصية هذا المبدع ، فهو إذا كان ذا شخصية ممتلئة ومؤثرة ، سيؤثر في العمل الحزبيّ أكثر ممّا يتأثّر به ، و يصبح ضمانة إضافيّة لأن لا ينحرف هذا العمل إلى مجرد المصلحة الحزبية المجرّدة ( كي لا أقول الضّيقة التي تستعمل دائما بعد كلمة الحزبية .. من قال إنها ضيقة ؟؟؟)
- وأخيرا .. هذه الدّعوة فيها احتقار لمكانة الشاعر ودوره في المجتمع ، وفيها غمز ضمنيّ بأنه كائن انفعاليّ لا يصلح للمشاركة في الحياة الواقعيّة ، وفيها تخلّف شنيع وقصور عن فهم دور المثقف كسلطة ...
وأذكّر هؤلاء فقط بموقف ايميل زولا ، و قضية درايفيس ، ومقولة " أتّهم .."
شكر الله سعيكم ...
ــــــــــ عبد اللّطيف علوي ـــــــــــــــــــــــ
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire